إنّ النفس العربية منكسرة بالفقر والبطالة"، هذا ما أعلنه الأمين العام لجامعة الدول العربية في قمّة شرم الشيخ (مصر) في 19 كانون الثاني/يناير. لا يمكن بصورةٍ أفضل تلخيص خشية حكومات المنطقة من رؤية الثورة التونسية تهدّد أنظمتهم أسقط التونسيّون نظاماً استبداديّاً تحول إلى حكمٍ "كليبتوقراطي" - أيّ نظام قائم على السرقة والفساد - مستنداً إلى سلطةٍ فرديّة قمعيّة. وقد تجسّد الحكم في عائلة نهبت المجتمع التونسيّ. وجاءت حرق طالبٍ ثانويّ شاب يائس لنفسه، كان يعمل في بيع الفاكهة والخضار متجوّلاً بعربته، لتطلق ثورةً انتصرت على واحدٍ من الأنظمة الأكثر قمعاً في العالم العربيّ، علماً أنّ في المنطقة الكثير من الديكتاتوريّات باتت هذه الانتفاضة البطوليّة لشعبٍ عظيم تعتبر نموذجاً يحتذى. لم يتوقعها أحد، ولم يكن لها قائدٌ سياسيّ، بل استفادت من طابعها غير المنظّم. فلو كانت أكثر من ذلك لكان النظام قد سحقها. وقد أقام المنتفضون، الذين توحّدوا من جرّاء طفح الكيل من طغيان السيّد زين العابدين بن عليّ، روابطاً بينهم بواسطة الإنترنت في طريقةٍ من التواصل لم يعرف النظام كيف يستبقها يستبقها (بالرغم من تجربة "الحركة الخضراء" في إيران في العام 2009، التي أحبطها النظام الدينيّ الحاكم). هكذا نجحت الانتفاضة في أقلّ من شهرٍ واحد بالإطاحة بهذا النظام الديكتاتوريّ، الذي كان قد جعل من تونس الدولة الأكثرإغلاقاً في شمال إفريقيا والشرق الأدنى على مدى ربع قرن لكنّ مزايا هذه الانتفاضة تحوي في الوقت نفسه نقاط ضعفها الرئيسة: أي عدم وجود قيادة، ولا برنامج سياسيّ، ولا قدرة على النهوض بشؤون المجتمع
إنّ النفس العربية منكسرة بالفقر والبطالة"، هذا ما أعلنه الأمين العام لجامعة الدول العربية في قمّة شرم الشيخ (مصر) في 19 كانون الثاني/يناير. لا يمكن بصورةٍ أفضل تلخيص خشية حكومات المنطقة من رؤية الثورة التونسية تهدّد أنظمتهم أسقط التونسيّون نظاماً استبداديّاً تحول إلى حكمٍ "كليبتوقراطي" - أيّ نظام قائم على السرقة والفساد - مستنداً إلى سلطةٍ فرديّة قمعيّة. وقد تجسّد الحكم في عائلة نهبت المجتمع التونسيّ. وجاءت حرق طالبٍ ثانويّ شاب يائس لنفسه، كان يعمل في بيع الفاكهة والخضار متجوّلاً بعربته، لتطلق ثورةً انتصرت على واحدٍ من الأنظمة الأكثر قمعاً في العالم العربيّ، علماً أنّ في المنطقة الكثير من الديكتاتوريّات باتت هذه الانتفاضة البطوليّة لشعبٍ عظيم تعتبر نموذجاً يحتذى. لم يتوقعها أحد، ولم يكن لها قائدٌ سياسيّ، بل استفادت من طابعها غير المنظّم. فلو كانت أكثر من ذلك لكان النظام قد سحقها. وقد أقام المنتفضون، الذين توحّدوا من جرّاء طفح الكيل من طغيان السيّد زين العابدين بن عليّ، روابطاً بينهم بواسطة الإنترنت في طريقةٍ من التواصل لم يعرف النظام كيف يستبقها (بالرغم من تجربة "الحركة الخضراء" في إيران في العام 2009، التي أحبطها النظام الدينيّ الحاكم). هكذا نجحت الانتفاضة في أقلّ من شهرٍ واحد بالإطاحة بهذا النظام الديكتاتوريّ، الذي كان قد جعل من تونس الدولة الأكثرإغلاقاً في شمال إفريقيا والشرق الأدنى على مدى ربع قرن
لكنّ مزايا هذه الانتفاضة تحوي في الوقت نفسه نقاط ضعفها الرئيسة: أي عدم وجود قيادة، ولا برنامج سياسيّ، ولا قدرة على النهوض بشؤون المجتمع بعد الإطاحة بالرئيس المنبوذ. وقد عرف هذا البلد، الذي يسكنه شعبٌ هو من الأكثر تعليماً والأرقى علمانيّةً في العالم العربيّ، كيف يتجنّب حتّى الآن وصول الإسلاميين المتطرّفين إلى ممارسة أيّ نوعٍ من الريادة. وما يلوح حتّى الآن لا يبدو أنّه سيوفّر لهؤلاء فرصةً للاستيلاء على الحكم بالقوة. وبالتالي إذا وافق جزءٌ من الإسلاميين (مثل حزب النهضة على المشاركة في اللعبة الديموقراطيّة، فسوف يكون من المهم إشراكهم في النظام السياسيّ، من أجل تهميش الإسلاميين المتطرّفين بشكلٍ أكبر
وما يمكن تلمّسه من مشاعر القلق السائدة بعد سقوط السيّد بن علي وفراره ينتج عن غياب النخبة السياسيّة المستقلّة الكفيلة بأن تؤمّن بديلاً عن الحكم القائم وأن تؤسّس عمليّة التحوّل إلى نظامٍ ديموقراطيّ؛ وبالتالي لا يبقى سوى نخب النظام البالي والأحزاب السياسيّة المتكوّنة حديثاً والنقابات العمالية التي قطعت رؤوسها. لكن إن ساد الخوف من الوقوع في الفوضى، والثقة في القدرة على الإدارة الذاتية للمجتمع، والواقعية السياسية، فمن الممكن أن تظهر بعض البنى السياسية. وسوف يكون شباب المجتمع ورقة قوّة له في سعيه نحو الديموقراطيّة، بعد أن عرف كيف يتخلّص من الديكتاتوريّة من دون خسائرٍ بشريّةٍ فادحة.
ولكن مع اقتراب الانتخابات التأسيسيّة الأولى، هل سيركّز القادة الجدد مرّةً أخرى على التخوّف من الحركات الإسلامية لكي يحملوا الحكومات الغربيّة على إعادة النظر في السيادة الشعبيّة؟ إذ إن الشارع الذي ما يزال متتفضاً يخيف الممسكين الجدد بالسلطة. وبهاجس تفادي حدوث تجاوزاتٍ عنيفة، أو على الأقلّ من أجل الحفاظ على جزءٍ من سلطة الرئيس المخلوع، يمكن للنظام الانتقالي أن يسعى إلى الإبقاء نوعاً ما على الوضع القائم. فإذا نظّم انتخابات في موعدٍ قريب، قد يكون هناك خطرٌ في تعزيز وزن النخب الفاقدة الشرعية، التي قد تعيد تجميع نفسها من أجل وضع اليد على مقاليد الحكم مجدّداً.
تبدو الترسيمة كلاسيكيّة. فقد شهدناها بدايةً في تسعينات القرن الماضي في بلغاريا ورومانيا، حيث راح النظام السابق يعمل بالتلازم مع النخب القديمة بغية إحياء نفسه في مظهرٍ جديد. كما أنّ وضع أوكرانيا أكثر تعبيراً: إذ كانت القطيعة أكثر عمقاً (إذ إنّ دولةً جديدة قد ظهرت)، إلاّ أن الكوادر السياسية السابقة قد عادت إلى الصدارة بمجرّد أن هدأت الاضطرابات. الحبل الجامع بين كلّ هذه الأوضاع هو أنّ الشعب يتحرّك ضدّ السلطات المكروهة، التي سرعان ما يُهدّئ سقوطها الضغط الشعبي. ولكن تلك هي بالضبط المشكلة الرئيسة التي تعوّق كل عملية تحوّل حين يفتقد المجتمع المدني إلى التنظيم.
غير أنّ انتفاضة كانون الثاني/يناير في تونس قد أحيت آمال شعوبٍ عربيّة أخرى؛ إذ يبدو أن تجربة التحرّر معدية، في الوقت نفسه في الجزائر ومصر والأردن والمغرب وسورية، وحتّى في فلسطين. ففي كلّ مكانٍ تقريباً هناك أجيالٌ جديدة يئست من الأنظمة الاستبدادية، وفقدت الأمل في التحرّر من هذه الأنظمة. لكنّ التجربة التونسية، وتحديداً لأنّها غير متوقّعة، لا يمكن أن تتكرّر بالشكل نفسه في سائر أنحاء العالم العربي.
ففي تونس كان الجيش منفصلاً نسبيّاً عن أجهزة الاستخبارات والقمع، والشرطة ضمنها. وهذه الأجهزة، التي تتقاضى رواتب زهيدة، باستثناء الحرس الجمهوري، تعرف كيف تدير انتفاضات محدودة، وكيف تخنق التمرّد في مهده. لكنّها تجهل كيف تجهز حتّى النهاية على الانتفاضات الضعيفة التنظيم والمتوسّعة إلى شرائح كثيرة.
التخلّي عن جزءٍ من السلطة للاستمرار في الحكم
النظام الديكتاتوري التونسي يختلف عن ديكتاتورية الجزائر، الجماعيّة وغير المركّزة في يد شخصٍ واحد، لكن الشبيه بديكتاتورية مصر حيث تنحصر الكراهية والأحقاد بالريّس وحده، قد شكّل هدفاً سهلاً للانتقام الشعبيّ. وما فاقم من هذه الظاهرة أيضاً هو تورّط مجمل أسرة بن علي تقريباً في نهب البلاد. فالديكتاتوريّات المتشعّبة عصيّة على السقوط أكثر من تلك التي يبرز فيها وجهٌ محدّد يكون مصبّ الحقد الشعبي، كما كانت عليه حال شاه إيران أو سوهارتو في إندونيسيا، كي لا نذكر غير هذين المثلين اللافتين. من جهةٍ أخرى، تتمتّع التحالفات الأوليغارشيّة (نخب الطغمة) بقاعدةٍ أوسع من الديكتاتوريّات الشخصانيّة، وهي بالتالي أقلّ هشاشةً. هكذا تبدو الأنظمة الاستبداديّة أكثر صموداً بقدر ما تمنح قسماً من السلطة إلى الشعب، وخصوصاً إلى مجموعات مختلفة منتفعة. فبالمقارنة مع تونس، أوجدت السلطة المغربية والجزائريّة شبكات مصالح أوسع وأكثر تراكباً، مرتبطة بها. وفي حالة الجزائر، حقّق الريع النفطي لحمةً في جسمٍ سياسي يهمّه مباشرةً الحفاظ على النظام.
من خصوصيات النظام التونسي أيضاً، أنّه حوّل الانتخابات إلى عمليات استفتاء بائسة (99.27 في المئة من الأصوات في العام 1989، و99.91 في المئة في العام 1994، و99.45 في المئة في العام 1999، و94.49 في المئة العام 2004 و89.62 في المئة العام 2009)، من دون أن يترك أي منفذٍ أمام المعارضة. وحقيقة الأمر أنّه لم يكن هناك وجود للحياة السياسيّة. ليس هذا هو الوضع القائم في مصر حيث النظام الانتخابي، على ما يعتاه من أعمال تزويرٍ كبيرة، يبقى على الأقلّ فسحة احتجاجٍ ومواجهة. ومن جهةٍ أخرى، ليست الصحافة مكمومة الأفواه كما هي الحال في تونس.
ولا حتّى في الجزائر، حيث بالمناسبة يساعد الريع النفطي في تأخير تركّز الغضب الشعبي، أقلّه طالما أنّ الطبقة العسكرية تبقى في آنٍ معاً موحّدة وغير بارزة كثيراً على الساحة السياسية، وقادرة بواسطة الإخضاع على استتباع قسمٍ من الفعاليات السياسية التي تقبل لعبة الاستقطاب. كما أنّ الخروج من حربٍ أهلية دامت أكثر من عشر سنوات قد ترك الجزائر نازفةً وغير جاهزة للانتفاض ضدّ نظامٍ انتصر على الإسلام الراديكالي مضحّياً بمئات آلاف القتلى.
ويبقى هناك المغرب، حيث لم يستهدف الحقد الشعبي حتّى الآن الأسرة الملكية. إلاّ أن الشباب المكبوتة بانسداد الآفاق، وبلعبةٍ سياسيّة مقفلة، وبجهازٍ أمنيّ قمعيّ، وبشبكاتٍ زبائنيّة ساحقة، يمكنها أن تجد محفزّات للانتفاض. ما يمكن أن يتجذّر نظراً إلى تعقّد الأوضاع في البلاد. وفي الواقع إن الانقسامات الإثنيّة فيه معاً أكثر عدداً وأكثر عمقاً في آنٍ، مع مسار توحيدٍ لم يحقّق تقدّماً كبيراً.
تحرّكات احتجاجية لا مفرّ من نشوئها وعصيّة على التوقّعات
في كلّ هذه الدول، كان من شأن نموذج تنميةٍ ضعيف النشاط، ومجحفٍ إلى أقصى الحدود، ومنطبعٍ بالزبائنيّة في جهاز الدولة، وبالإمساك بقبضة حديديّة بالشعب، وبعدم انفتاح الساحة السياسية، أن يجعل هذه الأنظمة تستمدّ غالباً "قوّتها" من ضعف مجتمعها المدني. لكن ما أن يظهر أي تصدّع في درع هذه الأنظمة، حتّى تستغلّها الاحتجاجات، وتهدّدها بالانهيار.
وما ركّز الثورة الشعبية في الحالة التونسية هو تحديداً الطابع المسوّس لنظامٍ محاصرٍ وغير شرعيّ. فهل كان ثمرةً يانعة لا بدّ لها إلاّ أن تسقط؟ علماً أنّ حكم السيّد بن علي كان يعتبر من الأمكن والأكثر استقراراً في المنطقة. ولم يكن أحد يرى الشرخ ويتوقّع ما سيحدث لاحقاً.
الأنظمة الأخرى ليست على هذه الدرجة من الهشاشة. لكن قيامها منذ زمنٍ طويل يجعل منها فريسةً سهلة لحركاتٍ من الصعب اليوم تصوّرها، لكنها قد تظهر في مرحلةٍ لاحقة بشكلٍ لا يمكن ردّه، على مثال الحركة التي أركعت النظام التونسيّ. فالسهولة التي تهاوت بها ديكتاتوريّة السيّد بن علي أمام هجمات الشباب، هي دليلٌ على عجز أجهزة القمع عن التغلّب على الحركات التي تطلع من لا مكان بشكلٍ خاطف.
وما ساهم في إنجاح الثورة التونسيّة هو التفاوات في حالات التنمية بين مختلف مناطق البلاد. فقد تحقّقت استثمارات مهمّة في المناطق الساحليّة بغية تشجيع السياحة، فيما أُهملت المناطق الداخلية. وهناك تحديداً ظهرت الحركة التي أودت بالنظام. بالطبع إنّ هذا التفاوت المناطقي قائمٌ في دولٍ عربيّة أخرى، إنّما بشكلٍ مختلف. فالمجتمعات التي تستأثر بالحكم فيها مجموعة ضيّقة جدّاً والفاقدة للشرعية، لا يمكنها في الواقع أن تتطوّر منطقيّاً من دون استقلاليّة طبقة تكنوقراطية تعمل على غرار النموذج الصيني. والحال أنّ معظم الدول العربيّة تضحّي بجماعتها التكنوقراطية على مذبح الفساد والنزعة الاستبدادية.
فتجّار البضائع غير الشرعية والشباب القلقون، وهم غالباً من خرّيجي الجامعات، يملؤون الشوارع، حيث يسندون الجدران: "شباب الحيطان" المدعون للالتحاق بالحركات الإسلامية أو بكلّ بساطة هؤلاء الذين يقعون ضحايا نظامٍ لا يفسح لهم أيّ مجال للعيش الكريم؟ فإمّا أن يعبروا عن يأسهم كما في مصر أو الجزائر (لكن دون أن ينجحوا في تحريك الأمور، وتنتهي حركتهم بالانطفاء شيئاً فشيئاً)، وإمّا أن تكون هناك حالة من الحقد المكتوم (كما في الأردن والمغرب). هكذا ترسي الأنظمة، غالباً من دون أن تتنبّه إلى ذلك، استقرارها على خمول مجتمعٍ لا يعرف كيف ينتفض. ولكن يوم سينفجر الغضب، ستأتي الثورة أكثر عماءً وعنفاً.
طالما لا ينجح يأس الشباب في استغلال حدثٍ كفيلٍ بشعل الفتيل، تبقى هذه الأنظمة سليمة. لكن أيّ "حدثٍ من أي نوع"، مثل حرق أحد الشباب لنفسه، سيكون كافياً لكي ينقاد مجتمعٍ بأكمله للثورة، محليّاً وإقليمياً أوّلاً، ولكي ينهار النظام ذليلاً وبسرعةٍ تتخطّى كلّ التحليلات.
سوف يكون انعكاس الحركة التونسية على سائر العالم العربي رهناً بقدرتها على إقامة الديموقراطيّة في البلاد. فإذا ما انتظمت الحياة الديموقراطية فيها، فعلى الأرجح أنّ هذه الحركة ستمتدّ، وبنوعٍ خاصّ إلى المغرب العربي. فالمطالب الشعبية تتكاثر، وعلى رأسها المطالبة بالتعدّدية والمشاركة. وإذا ما فشلت هذه الحركة، فإنّها ستجعل الأنظمة الاستبداديّة تعزّز مواقعها محبطةً الشعوب: معظم الأنظمة العربية تفضل على الأرجح الخيار الثاني، حتّى وإن ولّد ذلك الفوضى.
ويمكن أن نتخيّل سيناريوهان: فإمّا أن تنصت الأنظمة العربية إلى مطالب شعوبها وتبدأ بالانفتاح سياسيّاً، وإمّا أن تعمل بأيّ ثمن على الحفاظ على سلطتها من دون التجاوب مع مطالب المشاركة السياسية التي يرفعها إليها المواطنون.
صدام مباشر، انفتاح أو قمع
في حال الاحتمال الأوّل، سوف يكون الطريق مزروعاً بالعثرات. فبعد عدّة عقودٍ من الإنغلاق والقمع، على الأنظمة العربية في الواقع أن تنفتح تدريجيّاً تفادياً لحدوث صدمةٍ مباشرة، يمكن أن تفضي إلى الإطاحة بها. ونظراً إلى الإحباط الشعبيّ، يجب أن يكون انفتاحها الديموقراطي صريحاً كفاية لكي لا ينظر إليه على أنّه طعمٌ، وأن يكون تدريجيّاً لكي لا يوقع النظام السياسي في الاضطرابات الثورية. لكنّ التغيير التدريجيّ لا يمكن إنجازه إلاّ بسلاسة وبمساعدة نخبة سياسية لا تضحّي لا بالاستقرار ولا بالحاجة الملحّة إلى الديموقراطيّة. لكن تبقى هناك شكوك تحيط بقدرة الأنظمة القائمة على اجتذاب هذه النخبة، ومنحها شيئاً من السلطة لكي تنجز مهمّتها الانفتاحية.
يبقى حلّ موضوع الإنغلاق السياسي. فالأنظمة الاستبدادية العربية، وقد تعلّمت ممّا حدث في تونس، سوف تسعى إلى إلغاء الأسباب المباشرة للثورة، خصوصاً عبر مكافحتها غلاء السلع الأوّلية (الخبز والسكر واللحم والبيض إلخ). ثمّ سوف تعمل على تعزيز فاعليّة أجهزتها الأمنية والمخابراتيّة.
وقد تبيّن من النموذج التونسي أنّ نقطة ضعف قد تأتّت من نظام الاتّصالات، إذ شكل الإنترنت ملاذاً للمعارضين الذين تواصلوا فيما بينهم بواسطة الــ"يو تيوب" و"التويتر" و"الفايسبوك"، إلخ. كما أنّ نظام القمع التونسي قد عانى من سوء التنسيق على مختلف المستويات (الشرطة، الاستخبارات العامة والجيش). وعليه فإنّ الأنظمة العربية سوف تستوحي النموذج الإيراني لسحق الحركات الاجتماعية، وتتعلّم كيف تراقب الإنترنت وإخراجه من اللعبة عند الحاجة. وفي الحالات القصوى، سوف تعمل على طرد الصحافيين الأجانب أو على فرض الإقامة الجبرية عليهم. وهي ستحاول، على غرار جهاز "الباسيج" في إيران، أن تخنق الانتفاضات المدنيّة عبر تقسيم مختلف الأحياء، وأن تضع فيها قوّات متقدّمة يمكنها أن تتدخّل محلّياً. باختصار، سوف يشهد الوضع في هذه الحالة نوعاً من "تحديثٍ" لأجهزة القمع ومن "توسيعها". إلاّ أنّ معالجات من هذا النوع لا يمكنها أن تشكّل حمايةً من أنماطٍ جديدة من الأعمال الجماعية التي يمكن أن تبتكرها الحركات الاجتماعية مستقبلاً. فالحلول القمعية لن تخدم، في أفضل الأحوال، سوى على المدى القصير.
وإذا كانت "الحركة الخضراء" في إيران قد استفادت من تعاطفٍ غربيٍّ مهم، فهذا لم يتوفّر للانتفاضة التونسية. بل أنّ هذه الحركة قد أثارت ردّات فعلٍ قصيرة النظر وغير مناسبة كلّياً. وذلك في فرنسا خصوصاً، هذه الدولة التي ظلّت حتى النهاية مخلصةً لنظام السيد بن علي الديكتاتوريّ، فيما سائر العواصم الغربيّة، ومنها واشنطن، قد ساندت المتمرّدين من طرف لسانها. ما يعني أنّ الغرب لا يولي أيّ حماس لقيام الديموقراطيّة في العالم العربيّ، حتّى وإن كانت تصدر عنه أحياناً تصاريحٌ بلاغية حماسيّة. هكذا يمكن أن تشكّل الحركة التونسية فرصةً لتغيير هذا التصرّف، وخصوصاً من جانب باريس.
في العالم العربيّ، يتمّ النظر إلى التواطؤ مع الديكتاتوريّات على أنّه استمراريّة للاستعمار والإمبريالية بطرائقٍ أخرى، في حين يعتبر دعم إقامة الديموقراطية على العكس ضمانةً لاحترام للمجتمعات التي تتصدّى لأنظمة غير شرعيّة.
وإذا ما تشبّث الغرب، من باب الخوف من الإسلام المتطرّف أو من باب مصلحته، بعدم مساعدة هذا النوع من الحركات الديموقراطية، فبإمكانه على الأقل أن يبقى على الحياد الإيجابيّ
مولاي هشام بن عبد الله العلوي
لكنّ مزايا هذه الانتفاضة تحوي في الوقت نفسه نقاط ضعفها الرئيسة: أي عدم وجود قيادة، ولا برنامج سياسيّ، ولا قدرة على النهوض بشؤون المجتمع بعد الإطاحة بالرئيس المنبوذ. وقد عرف هذا البلد، الذي يسكنه شعبٌ هو من الأكثر تعليماً والأرقى علمانيّةً في العالم العربيّ، كيف يتجنّب حتّى الآن وصول الإسلاميين المتطرّفين إلى ممارسة أيّ نوعٍ من الريادة. وما يلوح حتّى الآن لا يبدو أنّه سيوفّر لهؤلاء فرصةً للاستيلاء على الحكم بالقوة. وبالتالي إذا وافق جزءٌ من الإسلاميين (مثل حزب النهضة على المشاركة في اللعبة الديموقراطيّة، فسوف يكون من المهم إشراكهم في النظام السياسيّ، من أجل تهميش الإسلاميين المتطرّفين بشكلٍ أكبر
وما يمكن تلمّسه من مشاعر القلق السائدة بعد سقوط السيّد بن علي وفراره ينتج عن غياب النخبة السياسيّة المستقلّة الكفيلة بأن تؤمّن بديلاً عن الحكم القائم وأن تؤسّس عمليّة التحوّل إلى نظامٍ ديموقراطيّ؛ وبالتالي لا يبقى سوى نخب النظام البالي والأحزاب السياسيّة المتكوّنة حديثاً والنقابات العمالية التي قطعت رؤوسها. لكن إن ساد الخوف من الوقوع في الفوضى، والثقة في القدرة على الإدارة الذاتية للمجتمع، والواقعية السياسية، فمن الممكن أن تظهر بعض البنى السياسية. وسوف يكون شباب المجتمع ورقة قوّة له في سعيه نحو الديموقراطيّة، بعد أن عرف كيف يتخلّص من الديكتاتوريّة من دون خسائرٍ بشريّةٍ فادحة.
ولكن مع اقتراب الانتخابات التأسيسيّة الأولى، هل سيركّز القادة الجدد مرّةً أخرى على التخوّف من الحركات الإسلامية لكي يحملوا الحكومات الغربيّة على إعادة النظر في السيادة الشعبيّة؟ إذ إن الشارع الذي ما يزال متتفضاً يخيف الممسكين الجدد بالسلطة. وبهاجس تفادي حدوث تجاوزاتٍ عنيفة، أو على الأقلّ من أجل الحفاظ على جزءٍ من سلطة الرئيس المخلوع، يمكن للنظام الانتقالي أن يسعى إلى الإبقاء نوعاً ما على الوضع القائم. فإذا نظّم انتخابات في موعدٍ قريب، قد يكون هناك خطرٌ في تعزيز وزن النخب الفاقدة الشرعية، التي قد تعيد تجميع نفسها من أجل وضع اليد على مقاليد الحكم مجدّداً.
تبدو الترسيمة كلاسيكيّة. فقد شهدناها بدايةً في تسعينات القرن الماضي في بلغاريا ورومانيا، حيث راح النظام السابق يعمل بالتلازم مع النخب القديمة بغية إحياء نفسه في مظهرٍ جديد. كما أنّ وضع أوكرانيا أكثر تعبيراً: إذ كانت القطيعة أكثر عمقاً (إذ إنّ دولةً جديدة قد ظهرت)، إلاّ أن الكوادر السياسية السابقة قد عادت إلى الصدارة بمجرّد أن هدأت الاضطرابات. الحبل الجامع بين كلّ هذه الأوضاع هو أنّ الشعب يتحرّك ضدّ السلطات المكروهة، التي سرعان ما يُهدّئ سقوطها الضغط الشعبي. ولكن تلك هي بالضبط المشكلة الرئيسة التي تعوّق كل عملية تحوّل حين يفتقد المجتمع المدني إلى التنظيم.
غير أنّ انتفاضة كانون الثاني/يناير في تونس قد أحيت آمال شعوبٍ عربيّة أخرى؛ إذ يبدو أن تجربة التحرّر معدية، في الوقت نفسه في الجزائر ومصر والأردن والمغرب وسورية، وحتّى في فلسطين. ففي كلّ مكانٍ تقريباً هناك أجيالٌ جديدة يئست من الأنظمة الاستبدادية، وفقدت الأمل في التحرّر من هذه الأنظمة. لكنّ التجربة التونسية، وتحديداً لأنّها غير متوقّعة، لا يمكن أن تتكرّر بالشكل نفسه في سائر أنحاء العالم العربي.
ففي تونس كان الجيش منفصلاً نسبيّاً عن أجهزة الاستخبارات والقمع، والشرطة ضمنها. وهذه الأجهزة، التي تتقاضى رواتب زهيدة، باستثناء الحرس الجمهوري، تعرف كيف تدير انتفاضات محدودة، وكيف تخنق التمرّد في مهده. لكنّها تجهل كيف تجهز حتّى النهاية على الانتفاضات الضعيفة التنظيم والمتوسّعة إلى شرائح كثيرة.
التخلّي عن جزءٍ من السلطة للاستمرار في الحكم
النظام الديكتاتوري التونسي يختلف عن ديكتاتورية الجزائر، الجماعيّة وغير المركّزة في يد شخصٍ واحد، لكن الشبيه بديكتاتورية مصر حيث تنحصر الكراهية والأحقاد بالريّس وحده، قد شكّل هدفاً سهلاً للانتقام الشعبيّ. وما فاقم من هذه الظاهرة أيضاً هو تورّط مجمل أسرة بن علي تقريباً في نهب البلاد. فالديكتاتوريّات المتشعّبة عصيّة على السقوط أكثر من تلك التي يبرز فيها وجهٌ محدّد يكون مصبّ الحقد الشعبي، كما كانت عليه حال شاه إيران أو سوهارتو في إندونيسيا، كي لا نذكر غير هذين المثلين اللافتين. من جهةٍ أخرى، تتمتّع التحالفات الأوليغارشيّة (نخب الطغمة) بقاعدةٍ أوسع من الديكتاتوريّات الشخصانيّة، وهي بالتالي أقلّ هشاشةً. هكذا تبدو الأنظمة الاستبداديّة أكثر صموداً بقدر ما تمنح قسماً من السلطة إلى الشعب، وخصوصاً إلى مجموعات مختلفة منتفعة. فبالمقارنة مع تونس، أوجدت السلطة المغربية والجزائريّة شبكات مصالح أوسع وأكثر تراكباً، مرتبطة بها. وفي حالة الجزائر، حقّق الريع النفطي لحمةً في جسمٍ سياسي يهمّه مباشرةً الحفاظ على النظام.
من خصوصيات النظام التونسي أيضاً، أنّه حوّل الانتخابات إلى عمليات استفتاء بائسة (99.27 في المئة من الأصوات في العام 1989، و99.91 في المئة في العام 1994، و99.45 في المئة في العام 1999، و94.49 في المئة العام 2004 و89.62 في المئة العام 2009)، من دون أن يترك أي منفذٍ أمام المعارضة. وحقيقة الأمر أنّه لم يكن هناك وجود للحياة السياسيّة. ليس هذا هو الوضع القائم في مصر حيث النظام الانتخابي، على ما يعتاه من أعمال تزويرٍ كبيرة، يبقى على الأقلّ فسحة احتجاجٍ ومواجهة. ومن جهةٍ أخرى، ليست الصحافة مكمومة الأفواه كما هي الحال في تونس.
ولا حتّى في الجزائر، حيث بالمناسبة يساعد الريع النفطي في تأخير تركّز الغضب الشعبي، أقلّه طالما أنّ الطبقة العسكرية تبقى في آنٍ معاً موحّدة وغير بارزة كثيراً على الساحة السياسية، وقادرة بواسطة الإخضاع على استتباع قسمٍ من الفعاليات السياسية التي تقبل لعبة الاستقطاب. كما أنّ الخروج من حربٍ أهلية دامت أكثر من عشر سنوات قد ترك الجزائر نازفةً وغير جاهزة للانتفاض ضدّ نظامٍ انتصر على الإسلام الراديكالي مضحّياً بمئات آلاف القتلى.
ويبقى هناك المغرب، حيث لم يستهدف الحقد الشعبي حتّى الآن الأسرة الملكية. إلاّ أن الشباب المكبوتة بانسداد الآفاق، وبلعبةٍ سياسيّة مقفلة، وبجهازٍ أمنيّ قمعيّ، وبشبكاتٍ زبائنيّة ساحقة، يمكنها أن تجد محفزّات للانتفاض. ما يمكن أن يتجذّر نظراً إلى تعقّد الأوضاع في البلاد. وفي الواقع إن الانقسامات الإثنيّة فيه معاً أكثر عدداً وأكثر عمقاً في آنٍ، مع مسار توحيدٍ لم يحقّق تقدّماً كبيراً.
تحرّكات احتجاجية لا مفرّ من نشوئها وعصيّة على التوقّعات
في كلّ هذه الدول، كان من شأن نموذج تنميةٍ ضعيف النشاط، ومجحفٍ إلى أقصى الحدود، ومنطبعٍ بالزبائنيّة في جهاز الدولة، وبالإمساك بقبضة حديديّة بالشعب، وبعدم انفتاح الساحة السياسية، أن يجعل هذه الأنظمة تستمدّ غالباً "قوّتها" من ضعف مجتمعها المدني. لكن ما أن يظهر أي تصدّع في درع هذه الأنظمة، حتّى تستغلّها الاحتجاجات، وتهدّدها بالانهيار.
وما ركّز الثورة الشعبية في الحالة التونسية هو تحديداً الطابع المسوّس لنظامٍ محاصرٍ وغير شرعيّ. فهل كان ثمرةً يانعة لا بدّ لها إلاّ أن تسقط؟ علماً أنّ حكم السيّد بن علي كان يعتبر من الأمكن والأكثر استقراراً في المنطقة. ولم يكن أحد يرى الشرخ ويتوقّع ما سيحدث لاحقاً.
الأنظمة الأخرى ليست على هذه الدرجة من الهشاشة. لكن قيامها منذ زمنٍ طويل يجعل منها فريسةً سهلة لحركاتٍ من الصعب اليوم تصوّرها، لكنها قد تظهر في مرحلةٍ لاحقة بشكلٍ لا يمكن ردّه، على مثال الحركة التي أركعت النظام التونسيّ. فالسهولة التي تهاوت بها ديكتاتوريّة السيّد بن علي أمام هجمات الشباب، هي دليلٌ على عجز أجهزة القمع عن التغلّب على الحركات التي تطلع من لا مكان بشكلٍ خاطف.
وما ساهم في إنجاح الثورة التونسيّة هو التفاوات في حالات التنمية بين مختلف مناطق البلاد. فقد تحقّقت استثمارات مهمّة في المناطق الساحليّة بغية تشجيع السياحة، فيما أُهملت المناطق الداخلية. وهناك تحديداً ظهرت الحركة التي أودت بالنظام. بالطبع إنّ هذا التفاوت المناطقي قائمٌ في دولٍ عربيّة أخرى، إنّما بشكلٍ مختلف. فالمجتمعات التي تستأثر بالحكم فيها مجموعة ضيّقة جدّاً والفاقدة للشرعية، لا يمكنها في الواقع أن تتطوّر منطقيّاً من دون استقلاليّة طبقة تكنوقراطية تعمل على غرار النموذج الصيني. والحال أنّ معظم الدول العربيّة تضحّي بجماعتها التكنوقراطية على مذبح الفساد والنزعة الاستبدادية.
فتجّار البضائع غير الشرعية والشباب القلقون، وهم غالباً من خرّيجي الجامعات، يملؤون الشوارع، حيث يسندون الجدران: "شباب الحيطان" المدعون للالتحاق بالحركات الإسلامية أو بكلّ بساطة هؤلاء الذين يقعون ضحايا نظامٍ لا يفسح لهم أيّ مجال للعيش الكريم؟ فإمّا أن يعبروا عن يأسهم كما في مصر أو الجزائر (لكن دون أن ينجحوا في تحريك الأمور، وتنتهي حركتهم بالانطفاء شيئاً فشيئاً)، وإمّا أن تكون هناك حالة من الحقد المكتوم (كما في الأردن والمغرب). هكذا ترسي الأنظمة، غالباً من دون أن تتنبّه إلى ذلك، استقرارها على خمول مجتمعٍ لا يعرف كيف ينتفض. ولكن يوم سينفجر الغضب، ستأتي الثورة أكثر عماءً وعنفاً.
طالما لا ينجح يأس الشباب في استغلال حدثٍ كفيلٍ بشعل الفتيل، تبقى هذه الأنظمة سليمة. لكن أيّ "حدثٍ من أي نوع"، مثل حرق أحد الشباب لنفسه، سيكون كافياً لكي ينقاد مجتمعٍ بأكمله للثورة، محليّاً وإقليمياً أوّلاً، ولكي ينهار النظام ذليلاً وبسرعةٍ تتخطّى كلّ التحليلات.
سوف يكون انعكاس الحركة التونسية على سائر العالم العربي رهناً بقدرتها على إقامة الديموقراطيّة في البلاد. فإذا ما انتظمت الحياة الديموقراطية فيها، فعلى الأرجح أنّ هذه الحركة ستمتدّ، وبنوعٍ خاصّ إلى المغرب العربي. فالمطالب الشعبية تتكاثر، وعلى رأسها المطالبة بالتعدّدية والمشاركة. وإذا ما فشلت هذه الحركة، فإنّها ستجعل الأنظمة الاستبداديّة تعزّز مواقعها محبطةً الشعوب: معظم الأنظمة العربية تفضل على الأرجح الخيار الثاني، حتّى وإن ولّد ذلك الفوضى.
ويمكن أن نتخيّل سيناريوهان: فإمّا أن تنصت الأنظمة العربية إلى مطالب شعوبها وتبدأ بالانفتاح سياسيّاً، وإمّا أن تعمل بأيّ ثمن على الحفاظ على سلطتها من دون التجاوب مع مطالب المشاركة السياسية التي يرفعها إليها المواطنون.
صدام مباشر، انفتاح أو قمع
في حال الاحتمال الأوّل، سوف يكون الطريق مزروعاً بالعثرات. فبعد عدّة عقودٍ من الإنغلاق والقمع، على الأنظمة العربية في الواقع أن تنفتح تدريجيّاً تفادياً لحدوث صدمةٍ مباشرة، يمكن أن تفضي إلى الإطاحة بها. ونظراً إلى الإحباط الشعبيّ، يجب أن يكون انفتاحها الديموقراطي صريحاً كفاية لكي لا ينظر إليه على أنّه طعمٌ، وأن يكون تدريجيّاً لكي لا يوقع النظام السياسي في الاضطرابات الثورية. لكنّ التغيير التدريجيّ لا يمكن إنجازه إلاّ بسلاسة وبمساعدة نخبة سياسية لا تضحّي لا بالاستقرار ولا بالحاجة الملحّة إلى الديموقراطيّة. لكن تبقى هناك شكوك تحيط بقدرة الأنظمة القائمة على اجتذاب هذه النخبة، ومنحها شيئاً من السلطة لكي تنجز مهمّتها الانفتاحية.
يبقى حلّ موضوع الإنغلاق السياسي. فالأنظمة الاستبدادية العربية، وقد تعلّمت ممّا حدث في تونس، سوف تسعى إلى إلغاء الأسباب المباشرة للثورة، خصوصاً عبر مكافحتها غلاء السلع الأوّلية (الخبز والسكر واللحم والبيض إلخ). ثمّ سوف تعمل على تعزيز فاعليّة أجهزتها الأمنية والمخابراتيّة.
وقد تبيّن من النموذج التونسي أنّ نقطة ضعف قد تأتّت من نظام الاتّصالات، إذ شكل الإنترنت ملاذاً للمعارضين الذين تواصلوا فيما بينهم بواسطة الــ"يو تيوب" و"التويتر" و"الفايسبوك"، إلخ. كما أنّ نظام القمع التونسي قد عانى من سوء التنسيق على مختلف المستويات (الشرطة، الاستخبارات العامة والجيش). وعليه فإنّ الأنظمة العربية سوف تستوحي النموذج الإيراني لسحق الحركات الاجتماعية، وتتعلّم كيف تراقب الإنترنت وإخراجه من اللعبة عند الحاجة. وفي الحالات القصوى، سوف تعمل على طرد الصحافيين الأجانب أو على فرض الإقامة الجبرية عليهم. وهي ستحاول، على غرار جهاز "الباسيج" في إيران، أن تخنق الانتفاضات المدنيّة عبر تقسيم مختلف الأحياء، وأن تضع فيها قوّات متقدّمة يمكنها أن تتدخّل محلّياً. باختصار، سوف يشهد الوضع في هذه الحالة نوعاً من "تحديثٍ" لأجهزة القمع ومن "توسيعها". إلاّ أنّ معالجات من هذا النوع لا يمكنها أن تشكّل حمايةً من أنماطٍ جديدة من الأعمال الجماعية التي يمكن أن تبتكرها الحركات الاجتماعية مستقبلاً. فالحلول القمعية لن تخدم، في أفضل الأحوال، سوى على المدى القصير.
وإذا كانت "الحركة الخضراء" في إيران قد استفادت من تعاطفٍ غربيٍّ مهم، فهذا لم يتوفّر للانتفاضة التونسية. بل أنّ هذه الحركة قد أثارت ردّات فعلٍ قصيرة النظر وغير مناسبة كلّياً. وذلك في فرنسا خصوصاً، هذه الدولة التي ظلّت حتى النهاية مخلصةً لنظام السيد بن علي الديكتاتوريّ، فيما سائر العواصم الغربيّة، ومنها واشنطن، قد ساندت المتمرّدين من طرف لسانها. ما يعني أنّ الغرب لا يولي أيّ حماس لقيام الديموقراطيّة في العالم العربيّ، حتّى وإن كانت تصدر عنه أحياناً تصاريحٌ بلاغية حماسيّة. هكذا يمكن أن تشكّل الحركة التونسية فرصةً لتغيير هذا التصرّف، وخصوصاً من جانب باريس.
في العالم العربيّ، يتمّ النظر إلى التواطؤ مع الديكتاتوريّات على أنّه استمراريّة للاستعمار والإمبريالية بطرائقٍ أخرى، في حين يعتبر دعم إقامة الديموقراطية على العكس ضمانةً لاحترام للمجتمعات التي تتصدّى لأنظمة غير شرعيّة.
وإذا ما تشبّث الغرب، من باب الخوف من الإسلام المتطرّف أو من باب مصلحته، بعدم مساعدة هذا النوع من الحركات الديموقراطية، فبإمكانه على الأقل أن يبقى على الحياد الإيجابيّ
مولاي هشام بن عبد الله العلوي